فصل: مسألة يكون في العبد بالخيار أو في شيء من الحيوان أو رهنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة بيع التمر المنثور بالكيل:

ومن كتاب أوله سلف دينارا:
قال ابن القاسم: لا بأس بالتمر المنثور بالكيل على التحري.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز التحري في ذلك؛ لأن التمر المكتل لا يتأتى في الكيل، فإنما يباع بالوزن؛ ولا اختلاف في إجازة التحري فيما يوزن مما لا يجوز فيه التفاضل، قيل: في القليل دون الكثير، وقيل: في القليل والكثير، ما لم يكثر جدا حتى لا يستطاع تحريه؛ قيل: وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، وقيل: بل إنما يجوز للضرورة عند عدم الميزان.
وقيل: بل إنما يجوز ذلك فيما يخشى فساده إلى أن يوجد ميزان، وهذا في المبايعة والمبادلة ابتداء؛ وأما من وجب له على رجل وزن من طعام، لا يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة، لعدم الميزان على ما يأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب بعد هذا؛ وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا، ورسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة اشترى طعاما سمي له كيله أو كان حاضرا كيله:

ومن كتاب العتق:
قال عيسى: قال ابن القاسم: من اشترى طعاما سمي له كيله، أو كان حاضرا كيله، هو على الكيل أبدا، وعلى البائع أن يكيله له ثانية حتى يشتريه على أنه يأخذه بكيله، أو على أنه يصدقه في كيله، بمنزلة ما يقول: كم في طعامك؟ فتقول: مائة إردب، فيقول له: قد أخذتها بخمسين فهو على الكيل لابد منه، إلا أن يشتريه على التصديق له؛ قيل: فإن اشتراه على الكيل ثم أراد أن يصدقه فيأخذه بكيله، قال: لا بأس بذلك؛ قيل: فإن أراد بعد ذلك أن يرجع إلى الكيل وبدله، قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن من حق المشتري أن يكيل له البائع ما اشترى منه من الطعام وإن كان قد حضر كيله؛ لأن الشراء فيما يكال على الكيل وإن لم يشترطه حتى يشتريه على التصديق تصريحا؛ قال عز وجل: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88].
فإن اشتراه على التصديق لم يكن له أن يرجع إلى الكيل إلا أن يرضى البائع؛ لأن الضمان قد سقط عن البائع فيه بتصديق المشتري إياه؛ فليس له أن يرده عليه، وكذلك إن اشتراه على الكيل، فليس له أن يرجع إلى التصديق إلا برضاه، وإن كان حاضرا كيله؛ لأنه يقول: أخشى خصومتك بأن تأخذه فتغيب عليه فتدعي النقصان فيه، وهو معنى قوله لا بأس بذلك، أي: ذلك جائز إذا رضي البائع، ولا اختلاف في أن من اشترى طعاما على الكيل، يجوز له أن يبيعه على التصديق إذا باعه بالنقد؛ واختلف إذا اشتراه على التصديق؛ فقيل: إنه لا يبيعه على الكيل ولا على التصديق حتى يكيله هو، أو يغيب عليه؛ من أجل أنه لو كاله قبل أن يغيب عليه فألفى فيه نقصانا، رجع في الثمن بحسابه؛ فكأن البيع لم يتم بينهما حتى يكتال أو يغيب عليه، حكى ذلك ابن حبيب من قول ابن كنانة عن مالك؛ ولو قيل له: لا يجوز له أن يبيعه قبل أن يكتاله وإن غاب عليه وحده؛ لأنه قد يدعي النقصان فيه فينكل البائع عن اليمين، فيحلف هو ويأخذ ما يقع له من الثمن، فكأن البيع لم يتم أيضا لكان قولا؛ وقيل: إنه لا يجوز أن يبيعه قبل أن يكيله أو يغيب عليه على التصديق وعلى الكيل، وهو قول ابن القاسم، وابن الماجشون، وأصبغ.

.مسألة اشترى جرار زيت أو سمن موازنة فوزنت له ثم أراد بيعها مرابحة:

ومن اشترى جرار زيت أو سمن موازنة فوزنت له، ثم أراد بيعها مرابحة قبل أن يفرغ أو يزن ظروفها، فذلك حلال لا بأس به؛ لأن ضمانها منه؛ لأنه قد قبضها ووزنها قبض ليس في هذا شك فإن انكسرت منها ظروف فضمان ما فيها منه، إلا أن وزن الظروف بوزن فخارها فيطرح ذلك عنه، فلا بأس أن يبيعها مرابحة وغيرها، وهي على الوزن في ذلك كله إن باعها يزنها للمشتري أيضا ذلك عليه، إلا أن يبيعه على أن يأخذها بوزنها الأول ويصدقه في ذلك، قال أصبغ: ويسلفان جميعا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب المرابحة، ومضى عليها من القول هناك ما فيه شفاء، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق، لا إله إلا هو، وهو على كل شيء قدير.

.مسألة يكون في العبد بالخيار أو في شيء من الحيوان أو رهنه:

ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها:
وسألته: عن الذي يكون في العبد بالخيار، أو في شيء من الحيوان، أو رهنه، أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن يشتري له عبدا، فيدعي هؤلاء كلهم أن ذلك هلك عندهم؛ هل يكلفه البينة إن زعموا أن ذلك هلك عندهم في الحاضرة وحيث الناس، أو ادعوا أنه هلك بفلاة من الأرض؛ قال ابن القاسم: إذا كان ذلك في حاضرة وحيث الناس وله جيران فلم يعلم أحد من جيرانه ما يذكر من الموت في العبد والدابة، رأيته ضامنا؛ وإذا ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه؛ وإن ادعى إباقا، فهو مصدق.
قال محمد بن رشد: ساوى في دعوى التلف بين الذي يشتري العبد بالخيار، أو يرتهنه، أو يشتريه لرجل فيما له عليه من الدين بأمره، وما يشتريه الرجل للرجل بأمره هو فيه مؤتمن كالمودع سواء؛ فدل ذلك على أنه لا فرق في دعوى تلف ما لا يغاب عليه من الوديعة والرهن وما أشبهه، وأن ذلك إنما يفترق فيما يغاب عليه، فيصدق في الوديعة؛ ولا يصدق في الرهن، إلا أن يقيم البينة؛ ويصدق فيما لا يغاب عليه في الوديعة والرهن والعارية، وما اشتراه لغيره بأمره إلا أن يتبين كذبه؛ ومما يتبين به كذبه أن يدعي أنه مات في حاضرة وله جيران لا يعلمون شيئا من ذلك.
وقوله: وله جيران فلم يعلم أحد منهم ما يذكر من موت العبد، يدل على أن السلطان يستخبر ذلك من الجيران، ولا يكلف إقامة البينة على ذلك؛ وفي رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، أنه يكلف البينة على ذلك، وفي المدونة دليل على القولين جميعا، ولم يشترط هاهنا عدالة من يسأل من الجيران؛ وقال في المدونة: إنه لا يقبل في ذلك إلا العدول، فقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإن معنى ما هاهنا إذا لم يكن في الجيران عدول، وأن معنى ما في المدونة إذا كان فيهم عدول؛ وقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وأنه ضامن على ما في المدونة إذا لم يأت بعدول وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول؛ والذي أقول به أنه لا اختلاف في شيء من ذلك كله، وأن المعنى فيه أن السلطان لا يلزمه أن يسأل عن ذلك ويستخبر عنه إلا أن يشاء، فإن سأل وفي ذلك الموضع عدول، لم يسأل إلا العدول، فإن قالوا نعلم موت ذلك العبد بعينه الذي ادعى موته، سقط عنه الضمان، ولم يكن عليه يمين؛ وإن قالوا نعلم أنه مات عنده عبد، أو شهدنا عنده جنازة ولا نعلم أن كان ذلك العبد الذي يدعي تلفه أم لا، صدق بيمينه؛ وإن قالوا لا نعلم شيئا مما يذكر لم يصدق ولزمه الضمان؛ وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول، سئلوا على ما هم عليه؛ فإن قالوا: لا نعلم شيئا مما يذكر، لم يصدق ولزمه الضمان؛ وإن قالوا: نعلم أنه مات العبد الذي يدعي موته، أو نعلم أنه مات له عبد، أو أنه كانت عنده جنازة ولا نعلم إن كان العبد الذي يدعي موته أو غيره، صدق في الوجهين جميعا مع يمينه؛ وكذلك إن لم يرد السلطان أن يسأل عن ذلك وكلفه إقامة البينة عنده إن أتاه بعدول يشهدون عنده على موت العبد الذي يدعي موته، سقط عنه الضمان ولم تلزمه يمين؛ وإن شهدوا عنده على معرفة الموت دون أن يعرفوا أنه هو العبد، صدقه فيما ادعى من موته مع يمينه، وإن أتى ببينة من جيرانه وهم غير عدول وليس فيهم عدول، فشهدوا عنده بموت العبد، أو بحضور جنازة كانت عنده، ولا يعلمون إن كانت للعبد أو لغيره صدق فيما ادعى من موته مع يمينه، وإن كان فيهم عدول لم يلتفت إلى من شهد عنده من غير العدول؛ وإن لم يأته ببينة على شيء من ذلك، لزمه الضمان ولم يصدق.
وقوله: فإن ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه، معناه: ويحلف على ذلك؛ وكذلك قوله وإن ادعى إباقا فهو مصدق، معناه: مع يمينه؛ والأصل في هذا، أنه إذا لم تكن له بينة عدلة على ما ادعى من موت العبد أو إباقه، فهو مصدق مع يمينه، إلا أن يتبين كذبه بدعواه ما لا يمكن أن يخفى دون أن يعلم ذلك ويدرى. وفي قوله في أول المسألة: أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن يشتري له عبدا- بيان واضح أنه صدقه في دعواه الشراء والتلف، ما لم يتبين كذبه، وإن كان غائبا حيث لا يجوز له الشراء؛ خلاف رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه أنه لا يصدق في الشراء والتلف إلا في الموضع الذي يجوز له فيه الشراء، وذلك إذا كان صاحب الدين حاضرا معه أو وكيله؛ وأما إذا كان غائبا عنه حيث لا يجوز له الشراء، فلا يصدق في التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء؛ فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: تصديقه في الموضعين، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه إذا صدق حيث لا يجوز له الشراء، فأحرى أن يصدق حيث يجوز له؛ وألا يصدق في واحد منهما حتى يقيم البينة على الشراء، وهذا القول قائم من المدونة من مسألة الغرر وغيرها؛ والقول الثالث: الفرق بين الموضعين، وقد مضى هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، ويأتي أيضا من سماع باع شاة من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وبالله التوفيق.

.مسألة باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه:

وسئل: عن رجل باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه، واستثنى على المشترى الاختلاف إلى الكنيف والاستقاء من البئر، فاحتاج الكنيف أو البئر إلى الكنس؛ هل عليه من ذلك شيء؟ قال: نعم عليه من ذلك بقدر ما استثنى من الدار إذا كان استثنى بيتا وباع ثلاثة أبيات، فعليه ربع نفقة الكنس؛ وإن كان أقل أو أكثر، فعلى حساب ذلك؛ ولا يلتفت في هذا إلى كثرة العدد وقلته.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: واستثنى على المشتري الاختلاف إلى الكنيف والاستقاء من البئر- دليل على أنه لو لم يستثنه عليه، لم يكن له، ولكان من حق المبتاع أن يمنعه، خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أشهب؛ وقوله في كنس البئر إذا احتاجت إلى الكنس، أنه يكون على البائع منه بقدر ما استثنى من الدار، صحيح لا اختلاف فيه عندي؛ لأنهم أشراك في البئر، فوجب أن تكون النفقة في كنسه على قدر الأنصباء، كما لو انهدم. وقوله: إنه يكون عليه ربع النفقة إن كان استثنى بيتا من أربعة أبيات، معناه: إذا تساوى البيوت؛ وأما إن لم تتساو، فلابد من أن يرجع في ذلك إلى القيمة؛ فإن كان البيت الذي استثنى يعدل الثلاثة الأبيات في القيمة، كان عليه نصف نفقة الكنس.
وأما قوله في كنس الكنيف أنه يكون عليه منه بقدر ما كان استثنى بيتا من أربعة أبيات من الدار ككنس البئر، ففيه قولان:
أحدهما: أنه على صاحبه الأصل لا على من ألقى فيه سقاطته بحق أوجب ذلك له، وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية في الدار يكون لواحد سفلها، ولآخر علوها، أن كنس الكنيف على صاحب السفل لأنه له، وإنما للأعلى الحق في الانتفاع به.
والثاني: أنه على من ألقى سقاطته فيه؛ لأنه شغله بما وضع فيه، فعليه أن يزيله منه؛ وإن كانوا عددا فعلى الجماجم، ولا يراعى في ذلك ملك الأصل لمن هو؟ وهو قول أصبغ وروايته عن ابن وهب في سماعه من الكتاب المذكور. وقوله في نوازله أيضا من كتاب السداد والإنهار.
وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في كنس كنيف الدار المكتراة، فقال أشهب: إنه على صاحب الدار؛ لأن الأصل له على أصله لم يضطرب في ذلك قوله، وقاله ابن القاسم أيضا في رواية أبي جعفر الدمياطي عنه؛ وهو على قياس قوله في هذه الرواية، وعلى أصل أشهب؛ وروى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب كراء الدور أنه على المكترى، وهو على قياس قول ابن وهب وأصبغ، وفي المدونة دليل على القولين جميعا، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما ثم يعلم البائع:

قال عيسى، في الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما، ثم يعلم البائع بفساد البيع، فيقوم على المشترى يريد فسخ البيع ولم يفت ذلك فيفوت المشتري الدار بتصديق بها، أو يبيعها؛ أو يبيع العبد، أو يعتقه بعد قيام البائع عليه؛ قال: أما الصدقة والبيع فإني لا أرى ذلك يجوز له بعد قيام البائع على فسخ البيع؛ وأما العتق فإني أراه خلاف البيع والصدقة، وأراه فوتا، وأرى أن يمضي العتق للعبد ولا يرد، وذلك أن للعتق حرمة.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يجوز له البيع ولا الصدقة ولا الهبة بعد قيام البائع عليه بفسخ البيع صحيح؛ لأنه متعد في ذلك عليه إذا فعله بعد أن قام عليه؛ إذ الواجب له بقيامه عليه أن يرد ماله إليه بفسخ البيع، وإنما يجوز ذلك له إذا فعله قبل أن يقوم عليه؛ لأنه قد أذن له في ذلك حين ملكه المبيع بالبيع الفاسد، فهو على ذلك الإذن، ما لم يرجع عنه بالقيام عليه؛ فإذا باع أو وهب أو تصدق بعد أن قام عليه، كان بالخيار بين أن يجيز له ما صنع من البيع والهبة والصدقة، ويضمنه القيمة في ذلك يوم القبض؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد رضي بالتزام القيمة، وبين أن يرد البيع والهبة والصدقة ويأخذ ماله؛ وليس له أن يقول أنا أجيز البيع وآخذ الثمن، إذ ليس بعداء صرف، من أجل أنه باع ما قد حصل في ضمانه بالبيع الفاسد؛ ألا ترى أنه لو تلف، كانت مصيبته منه؛ وكان القياس على هذا أن يكون في العتق مخيرا أيضا بين أن يرده ويأخذ عبده، أو يمضي عتقه ويضمن المشتري القيمة؛ إلا أنه أمضاه ورآه فوتا، لحرمة العتق استحسانا، من أجل أنه لم يعتق إلا ما قد حصل في ضمانه بالقبض بالبيع الفاسد وإن كان متعديا فيه بعد قيام البائع عليه، وهذا وجه الاستحسان أن يعدل عن حقيقة القياس في موضع من المواضع لمعنى يختص به ذلك الموضع، يترجح به ما ضعف من الدليلين المتعارضين.

.مسألة يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه حتى ادعى البائع أن الطعام هلك عنده:

وسئل: عن رجل يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه حتى ادعى البائع أن الطعام هلك عنده، وكذبه المبتاع، وأراد أن يضمنه الكيل الذي باع منه، قال: عليه أن يوفيه الكيل الذي اشترى منه، إلا أن يعلم هلاكه بالبينة العادلة.
قال محمد بن رشد: قوله عليه أن يوفيه الكيل الذي اشترى منه، يريد ولا يكون له أن يصدقه فيما ادعى من هلاكه، فيأخذ منه الثمن؛ لأنه إذا كان مخيرا في أن يأخذه بمثل الكيل الذي ابتاع منه، أو يأخذ الثمن الذي دفع إليه، دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأن أخذ الثمن منه إقالة، والإقالة لا تكون إلا ناجزة، ففسدت بما دخلها من الخيار؛ وهذا قاله من قول ابن القاسم في كتاب السلم الثالث من المدونة في الذي يشتري طعاما بعينه كيلا، فيتعدى عليه البائع فيستهلكه؛ أنه يضمن له مثله، ولا يكون له الخيار في أن يأخذ منه الثمن؛ لأن محمل المسألة أن الاستهلاك لم يعلم إلا بقوله، وقد قال أشهب: إنه في ذلك بالخيار؛ وهو نحو ما وقع في كتاب السلم الأول في بعض الروايات في الذي أسلم ثوبا في طعام، فتعدى رجل على الثوب في يد المسلم فأحرقه، ولم يعلم ذلك إلا بقوله؛ أن المسلم إليه بالخيار بين أن يغرمه قيمته ويكون السلم عليه على حاله، أو يفسخ السلم عن نفسه، ومثله في كتاب ابن المواز؛ فعلى هذا يكون المشتري بالخيار بين أن يصدقه فيما ادعى من هلاك الحمل، ويأخذ منه الثمن، أو يغرمه مثله.
وقد قيل: إن معنى ما تكلم عليه أشهب في مسألة كتاب السلم الثالث، إذا علم استهلاكه للطعام؛ وأما مسألة كتاب السلم الأول فلا وجه فيها للتأويل؛ لأنه قد خيره بين الأمرين، مع أنه قد نص على أنه لم يعلم ذلك إلا بقوله؛ إلا أن في هذا القول بعدا، لاحتمال أن يكون المسلم قد استهلك الثوب، فوجبت عليه قيمته للمسلم إليه فيكون قد أقاله على القيمة من السلم، فيدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالصحيح فيها أن يغرمه القيمة ويثبت السلم، وبالله التوفيق.

.مسألة باع غنما وفيها كبش معتل على أن المبتاع فيه بالخيار:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم: عن رجل باع غنما وفيها كبش معتل على أن المبتاع فيه بالخيار عشرة أيام أو نحوها، فإن رضيه حبسه، وإن كرهه رده بالذي يصيبه من الثمن؛ قال: هذا بيع لا يحل؛ لأنه لا يدري بكم وجبت عليه الغنم؛ ألا ترى أنه لو حبس الشاة التي هو فيها بالخيار، كان عليه جميع الثمن؛ وإن ردها، ردها بقيمتها من جميع الثمن؛ فهو لا يدري كم تلك القيمة؛ ولا ما يصير عليه؛ ولا بكم يبقى عليه ما بقي في يده من الغنم؛ قال: قلت: فإن فاتت الغنم فلم يوجد سبيل إلى ردها؛ قال: يفسخ البيع ويرد إلى قيمة الغنم يوم تبايعاها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة لفساد البيع فيها علتان: إحداهما: يختلف في إفساد البيع بها وهي الجهل بما تبقى عليه الغنم إن رد الشاة، والثانية: يتفق على فساد البيع بها وهي كونه في الشاة المعتلة بالخيار عشرة أيام، والخيار لا يجوز فيها إلى هذا الأمد، فيكون البيع فيها فاسدا متفقا عليه؛ لأن الصفقة إذا جمعت حلالا وحراما فسخت، إلا على رواية شاذة تروى عن مالك، فكيف إذا جمعت ما لا يجوز، وما يختلف في جوازه؛ وقد مضت هذه المسألة في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الخيار، واعتل فيها لفساد البيع بالعلتين جميعا؛ وسكت هاهنا عن العلة الواحدة، واكتفى بالثانية على أحد قوليه في إفساد البيع بها؛ فلو سمى للشاة العليلة ثمنا واشترط الخيار فيها اليوم واليومين، لجاز البيع؛ لأنه كان يجمع صفقتين: صفقة بت وصفقة خيار.
وقوله: ويرد إلى قيمة الغنم يوم تبايعا، معناه: إذا كان العقد والقبض في يوم واحد، وأما إن اختلفت الأيام والقيم؛ فالقيمة إنما تكون في الغنم يوم القبض لا يوم البيع.

.مسألة يشتري من الرجل طعاما بدينار فيتقابضان ثم يختلفان قبل الافتراق:

ومن كتاب الصبرة:
قال يحيى: سئل ابن القاسم: عن الرجل يشتري من الرجل طعاما بدينار، فيقبض البائع الدينار، ويقبض المشتري الطعام؛ فيختلفان قبل الافتراق: فيقول البائع: إنما بعت منك خمسة أرادب بدينار وقد وصلت إليك، ويقول المشتري: بل اشتريت منك ستة بدينار وبقي لي إردب؛ قال: القول قول البائع؛ لأن المشتري مدع عليه إن قبض الطعام وقضى الدينار، والبائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار؛ قيل له: أرأيت إن لم يكن قبض الدينار وقد قبض المشتري الخمسة الأرادب، وادعى أنه اشترى ستة؛ أو لم يقبض من الطعام شيئا، ولم ينقد الدينار.
فقال: إذا تناكرا ولم يقبض واحد منهما شيئا، تحالفا وتباريا، وإن كان قبض الخمسة أرادب، فادعى في السادس ولم ينقد الدينار، حلف أنه اشترى ستة بدينار، ثم أحلف البائع ما باعه إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا قضاه خمسة أسداس الدينار، وفاسخه في السدس، ولم يكن بينهما فيه بيع؛ قلت: فأيهما يبدأ باليمين إذا لم يقبض واحد منهما من صاحبه شيئا، قال: يحلف المشتري بالله اشترى مني ستة أرادب بدينار، ثم يحلف البائع بالله لما باعه إلا خمسة أرادب بدينار؛ ثم يكون المشتري بالخيار أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إنهما إذا اختلفا في مكيلة الطعام قبل الافتراق؛ وقد قبض البائع الدينار، أنه مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، خلاف مذهبه في المدونة، وعلى غير أصله فيها؛ لأنه لم ير النقد المقبوض فيها فوتا إذا اختلفا في المثمون ولا قبض السلعة فوتا إذا اختلفا في الثمن.
فقوله إن البائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، هو مثل قول غيره في كتاب كراء الرواحل والدواب من المدونة وعلى رواية ابن وهب عن مالك في أن قبض السلعة فوت إذا اختلفا في الثمن؛ فالاختلاف في قبض الثمن هل فوت أم لا، إذ الاختلاف في المثمون جاز على الاختلاف في قبض السلعة، هل هو فوت أم لا إذا اختلفا في الثمن، إذ لا فرق بين الموضعين؛ فمن رأى قبض السلعة فوتا، رأى قبض النقد فوتا، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في هذه الرواية، ومن لم ير قبض السلعة فوتا، إلا أن تفوت بحوالة أسواق فما زاد، لم ير قبض النقد فوتا إلا أن يغيب عليه البائع؛ وقيل: إنه لا يكون فوتا وإن غاب عليه حتى يطول الأمر، أو يحل أجل المثمون المختلف فيه- إن كان سلما، وهو قول ابن القاسم في المدونة، ولا فرق في القياس إذا غاب عليه بين أن يطول الأمر أو لا يطول، وقيل: إنه لا يكون قبض النقد فوتا وإن غاب عليه وطال الأمر، إذ لا يراد النقد من الدنانير والدراهم لعينه؛ وأما المكيل والموزون إذا اختلفا في ثمنه بالقيمة عليه على مذهب ابن القاسم فوت، إذ لا يعرف بعينه إذا غيب عليه.
وقوله في هذه الرواية: إنه إن كان قبض الخمسة أرادب وادعى في السادس ولم ينقد الدينار، أنه يحلف لقد اشترى منه ستة بدينار، ويحلف البائع ما باعه إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا، قضاه خمسة أسداس الدينار، وفاسخه في السدس- خلاف المشهور من مذهبه في أن القبض ليس بفوت على أصله في هذه الرواية أن النقد المقبوض فوت، وإنما يصح هذا الجواب على المشهور من مذهبه في أن القبض ليس بفوت إذا كان قد غاب على الطعام؛ وأما إذا لم يغب عليه فيتحالفان ويتفاسخان ويرجع الطعام إلى البائع، وأما إذا لم يقبض واحد منهما شيئا، فلا اختلاف في أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والاختيار أن يبدأ المشتري باليمين في هذه المسألة على ما في هذه الرواية؛ لأنه بائع للدينار، بقوله لم أبع ديناري إلا بستة أرادب، فكان الاختيار أن يبدأ باليمين ولو اختلفا في ثمن الخمسة الأرادب، فقال البائع: بعتها لو فعلت، وقال المبتاع: اشتريتها بخمسة أسداس دينار، لكان الاختيار أن يبدأ البائع؛ كما إذا اختلفا في ثمن السلعة؛ فقال البائع: بعتها بستة أرادب، أو بستة دنانير، وقال المبتاع: بل ابتعتها بخمسة أرادب أو بخمسة دنانير؛ الاختيار أن يبدأ البائع باليمين، وأيهما بدأ باليمين في المسألتين جميعا فذلك جائز؛ لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فأيهما بدأ باليمن جاز.
وقد كان يمضي لنا عند من أدركناه من شيوخنا في هذه المسألة أن تبدئة المشترى فيها باليمين خلاف الاختيار، والصحيح ما قلناه وبيناه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، فسخ البيع بينهما، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا كان القول قول البائع، ظاهره بلا يمين؛ وقيل: بعد أن يحلف، وهو الصواب؛ وعلى هذا ليس قوله بخلاف لقول سواه، وقد شرحنا هذا في غير هذا الكتاب؛ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف.
واختلف هل ينفسخ البيع بينهما بتمام التحالف، أو لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما؛ فقيل: إنه ينفسخ بتمام التحالف وهو قول سحنون، وظاهر ما في كتاب الشفعة من المدونة؛ وقيل: إنه لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما، وهو مذهب ابن القاسم في كتاب السلم الثاني من المدونة، وفي هذه الرواية لقوله فيها، ثم يكون المشتري بالخيار بين أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.
وقيل: إن كان التحالف بأمر حكم لم ينفسخ حتى يفسخه الحاكم، وإن كان تحالفهما بغير أمر حكم انفسخ بتمام التحالف؛ وقيل بعكس هذه التفرقة، وعلى القول بأن البيع لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم، يكون للمبتاع بعد التحالف أن يأخذ السلعة بما قال البائع، وللبائع أن يلزمها المبتاع بما قال ما لم يفسخ الحاكم بينهما، وقد تأول على ما في المدونة أن للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وليس للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وتأول على ابن عبد الحكم أن للبائع أن يلزمها المبتاع بما قال، وليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، والصحيح من التأويل أن ذلك ليس باختلاف من القول، وأن كل واحد منهما تكلم على طرف لم يتكلم عليه صاحبه، فصار قول كل واحد منهما مفسرا لصاحبه.

.مسألة بيع كبير الخشب المجموع جزافا:

وسئل: عن بيع كبير الخشب المجموع الذي يلقى بعضه على بعض، أيجوز بيعه جزافا؟
قال: لا؛ قيل له: لِمَ؟ قال: لأنه غرر ترك عدده ويجازفه، ومثله يخف مؤنة عدده، بمنزلة البقر والغنم وما أشبه ذلك؛ قال: ولا أرى بأسا باشتراء صغير الخشب مجموعا جزافا، وذلك أن عدده مما يشق على الناس؛ ووجه بيعه الجاري فيه بين الناس المجازفة فيه. وإنما مثل كبير الخشب في هذا وصغيره، كمثل كبير الحيتان وصغيره؛ ولا بأس ببيع صغيره جزافا، ولا يصلح في كبيره؛ قال: وما جاز بيعه من صغير الحيتان مجموعا جزافا، فلا يصلح إذا سار في أوعيته أن تباع أوعيته جزافا مثل قلال الصير وما أشبهها مما يجمع في السفن، فلا يجوز بيع ما في السفينة من قلال الصير جزافا؛ وكذلك ما يجمع في البيت منها، أو في غير ذلك مما يجمع فيه الظروف، فلا يصلح بيعه إلا عددا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بيع الجزاف رخصة وتوسعة وسع فيه لطرح مئونة الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، أو العد فيما يعد، فإذا كان الشيء المعدود كثيرا لا مئونة في عدده، لم يجز بيعه جزافا؛ لأن ذلك قد يئول إلى الغرر، إذ لا مكونة في عدده، وبالله التوفيق.

.مسألة يشتري الزيت من الرجل ويسقط الإناء الذي يكيل به على إناء المشتري:

ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع:
وسئل: عن الرجل يشتري الزيت من الرجل، فبينما البائع يكيل للمشتري بعد أقساط قد كالها وجعلها في إناء المشتري، إذ سقط العيار الذي يكال به من يد البائع على إناء المشتري، فكسره وذهب ما فيه، وما كان في المكيال بعد ما امتلأ المكيال، وأراد صبه في الإناء، فقال: أما ما كان في المكيال، فهو من البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من البائع الذي كسره بفعله؛ فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه المشتري، أوفاه ما بقي عليه من الزيت؛ وإن كان فنسي، حاسبه ورد عليه ما بقي من ذهبه ولم يضمن له غرم ما كان في المكيال، ولكن يرد عليه ما يصبه من الثمن لفناء الزيت من يده، قلت: أرأيت إن كان البائع أمكن المشتري من المكيال يكتال لنفسه، فلما أن أوفاه هذا الكيل، سقط من يد المشتري على إناء نفسه فكسره؛ قال: أما ما كان في الإناء، فهو أتلفه على نفسه؛ وما كان في المكيال، فضمانه من البائع؛ لأنه لا ضمان على المشتري فيما يشتري بالكيل حتى يقبضه، وليس القبض أن يملأ له الكيل، ولكن القبض أن يجعله في إناء المشتري أو يصبه حيث أمره؛ ولا يضمنه من أجل أنه كان يكتال لنفسه؛ لأنه في ذلك مؤتمن حتى يصل إليه؛ قلت: أرأيت إن استأجرا جميعا رجلا أو استعاناه للكيل بينهما، فسقط من يده على نحو ما سقط من يد أحدهما؛ قال أما ما كان في الإناء، فضمان على الذي استؤجر أو استعين، وأما ما كان في المكيال، فهو من البائع، لا ضمان فيه على الذي استؤجر أو استعين إذا لم يكن منه في ذلك شيء يعلم أن تلفه كان من عمله أو بسبب تضييعه، والمشتري مثله فيما سقط من يده.
قال محمد بن رشد: قوله في المكيال إذا سقط من يد البائع بعد أن امتلأ على إناء المشتري فانكسر وكسر ما في إناء المشتري، أن ما كان في المكيال فهو من البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من البائع الذي كسره بفعله، لا اختلاف فيه؛ غير أن ما كان في المكيال يلزمه غرمه من الزيت الذي باع منه، فإن لم يكن فيه ما يوفيه إياه منه، حاسبه ورد عليه ما ينوبه من الثمن؛ وأما ما كان في الإناء فيلزمه غرم مثله من ذلك الزيت ومن غيره.
وقوله فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه المشتري، أوفاه ما بقي عليه من الزيت، يريد بعد الذي انكسر، إذ الذي انكسر هو ضامن لمثله على كل حال وإن فني الزيت من يده، وإنما يحاسبه إذا فني الزيت من يده بما بقي من العدد الذي باع منه؛ مثال ذلك: أن يبيع منه عشرة أقساط من زيت عنده، فيكيل له منه خمسة في إنائه، ثم يسقط الكيل السادس من يده على إناء المشتري فيذهب ما فيه وما في الإناء؛ فإن كان في بقية الزيت الذي كان عنده ما يوفيه منه الخمسة الأقساط الباقية، وفاه إياها منه؛ وإن لم يكن فيه وفاؤها، رد عليه من الثمن ما يجب لما نقص من ذلك.
وأما الخمسة الأقساط التي سقط المكيال عليها فكسرها، فهو ضامن لمثلها من غير ذلك الزيت إذا فني ذلك الزيت، أو لم يرد أن يعطي منه؛ إذ لا يلزمه أن يعطي ذلك منه؛ لأنها جناية لازمة لزمته غير متعينة في ذلك الزيت، وقد مضى القول على هذا المعنى وعلى سائر ما في المسألة مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى.